الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
اللطيفة الثالثة:

في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران: 7].

تعريف المحكم:

المحكم لغة:
قال ابن فارس «الحاء والكاف والميم أصل واحد وهو المنع، وأول ذلك:
الحُكم، وهو المنع من الظلم وسُمِّيَت حَكَمَة الدابة لأنها تمنعها...».


وتقول: أحكمت الشيء أي اتقنته. والمحكم عمومًا هو المتقن، وبمعنى أخص: ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى.

المحكم اصطلاحًا:

ذكر العلماء له تعريفات كثيرة، أكتفي بذكر اثنين منها مع ما بينها من تقارب في المعنى:

أ- ما اتضح معناه، واستقل بنفسه.

ب- ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، وهو المشار إليه في المعنى اللغوي.

وهذان التعريفان يدوران حول قضية واحدة، وهي أن المحكم ما استقل بنفسه في الدلالة على معناه من غير التباس، ويقابله المتشابه وهو:

تعريف المتشابه:

المتشابه لغة: قال ابن فارس: «الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا... والمشبهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا».

المتشابه اصطلاحًا: ذكر له العلماء تعريفات كثيرة أيضًا، ولعل أفضل التعريفات المذكورة أربعة، وهي متقاربة المعنى، وهي:


  1. ما لم يتضح معناه، إما لاشتراك أو إجمال أو غيره.
  2. ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
  3. ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره.
  4. ما لا يغني ظاهره عن مراده.

فهذه التعريفات الأربعة تدور حول معنى واحد وهو أن المتشابه لا يفي بالمعنى على وجهٍ يستقل به.

أقوال أهل العلم في المحكم والمتشابه:

اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة نذكرها فيما يلي:

الأول: أن المتشابه هو المنسوخ فمعنى المنسوخ معروف.

وهذا القول مأثور عن ابن
مسعود وابن عباس وقتادة والسُّدي وغيرهم، وابن مسعود وابن عباس، وقتادة،
هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ومعلوم قطعًا
باتفاق المسلمين أن الراسخين يعلمون معنى المنسوخ، وأنه منسوخ، فكان هذا
النقل عنهم يناقض ذلك النقل، ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقًا، وإلا
تعارض النقلان عنهم، والمنقول عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه.


الثاني: مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال:

المحكم ما علم العلماء تأويله، والمتشابه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة.

ومعلوم أن وقت قيام
الساعة مما اتفق المسلمون على أنه لا يعلمه إلا الله، فإذا أريد بلفظ
التأويل هذا كان المراد به لا يعلم وقت تأويله إلا الله وهذا حق، ولا يدل
ذلك على أنه لا يعرف معنى الخطاب بذلك، وكذلك إن أُريد بالتأويل حقائق ما
يوجد، وقيل: لا يعلم كيفية ذلك إلا الله.


الثالث: أن
المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور يروى هذا عن ابن عباس، وعلى هذا
القول فالحروف المقطعة ليست كلامًا تامًا من الجمل الاسمية والفعلية،
وإنما هي أسماء موقوفة، ولهذا لم تعرب، فإن الإعراب إنما يكون بعد العقد
والتركيب، وإنما نطق بها موقوفة كما يقال: ا ب ت ث- ولهذا تكتب بصورة
الحرف، لا بصورة الاسم الذي ينطق به، فإنها في النطق أسماء.


الرابع: أن المتشابه ما اشتبهت معانيه قاله مجاهد، وهذا يوافق قول أكثر العلماء، وكلهم يتكلم في تفسير هذا المتشابه، ويبين معناه.

الخامس :أن المتشابه ما تكررت ألفاظه قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسد.

قال المحكم: ما ذكر الله
تعالى في كتابه، من قصص الأنبياء ففصله وبينه، والمتشابه هو ما اختلفت
ألفاظه في قصصهم عند التكرير كما قال في موضع من قصة نوح: ﴿احْمِلْ فِيهَا
[هود: 40]،

وقال في موضع آخر: ﴿اسْلُكْ فِيهَا[size=16][المؤمنون: 27]، وقال في عصى موسى: ف﴿َإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى[طه: 20]، وفي موضع آخر: ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ[الشعراء: 32]، وصاحب هذا القول جعل المتشابه اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى، كما يشتبه على حافظ القرآن هذا اللفظ بذاك اللفظ. [/size]
[size=21]وقد
صنف بعضهم في هذا المتشابه ؛ لأن القصة الواحدة يتشابه معناها في
الموضعين، فاشتبه على القارئ أحد اللفظين بالآخر، وهذا التشابه قد ينفي
معرفة المعاني بلا ريب.
[/size]


[size=21]السادس: أنه ما احتاج إلى بيان كما نقل عن الإمام أحمد.[/size]

[size=21]السابع:
أنه ما احتمل وجوهًا، كما نقل عن الشافعي،وأحمد، وقد روى عن أبي الدرداء
رضي الله عنه أنه قال: إنك لا تفقه كُلَّ الفقه حتى ترى للقرآن وجوهًا.
[/size]

[size=21]الثامن: أن المتشابه هو القصص والأمثال وهذا أيضًا يعرف معناه.[/size]

[size=21]التاسع: أنه ما يؤمن به ولا يعمل به، وهذا أيضًا مما يعرف معناه.[/size]

[size=21]العاشر:
قول بعض المتأخرين أن المتشابه آيات الصفات، وأحاديث الصفات، وهذا أيضًا
مما يعلم معناه، فإن أكثر آيات الصفات اتفق المسلمون على أنه يعرف معناها،
والبعض الذي تنازع الناس في معناه إنما ذم السلف منه تأويلات الجهمية،
ونفوا علم الناس بكيفيته: كقول مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول،
والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
[/size]

[size=21]وكذلك
قال سائر أئمة السنة، وحينئذٍ فرق بين المعنى والمعلوم، وبين الكيف
المجهول. هذه هي معظم الأقوال التي قيلت في المحكم والمتشابه.
[/size]


[size=21]واعلم أن المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه من قول: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا
أي: التبس علينا، أي يحتمل أنواعًا كثيرة من البقر، والمراد بالمحكم ما
في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهًا واحدًا.
[/size]


[size=21]وقيل:
إن المتشابه ما يحتمل وجوهًا، ثم إذا رُدت الوجوه إلى وجه وأبطل الباقي
صار المتشابه محكمًا، فالمحكم: أبدًا أصلٌ تُرد إليه الفروع والمتشابه هو
الفرع.
[/size]


[size=21]السلف
فسروا جميع القرآن لأن التشابه نسبي إضافي. لقد أنزل الله تعالى كتابه
بلسان عربي مبين، على نبي من العرب، وخاطب به أول من خاطب أمة عربية، كي
يكون هاديًا ومرشدًا إلى الحق، وهذا يعني أنه مفهوم لدى المخاطبين به، كي
تقوم الحجة، وتنقطع المعذرة.
[/size]


[size=21]هذا،
وقد جلّى هذه المسألة وفصلها، ورد على المخالفين لها من وجوه عدة الإمام
أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، ومن ذلك قوله: «والمقصود هنا: أنه لا
يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى
الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من
المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن
لا يعلمه الراسخون أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون
الآخر.
[/size]


[size=21]فإن
معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن
مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطعًا
على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال
كثير منهم إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد - مع جلالة قدره - والربيع بن
أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال: أنا من
الراسخين الذين يعلمون تأويله.
[/size]


[size=21]قالوا:
والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن، وقال مجاهد:
عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقِفُه عند كل آية وأسأله
عنها، وتلقوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال أبو عبد الرحمن
السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقْرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن
مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر
آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا
القرآن والعلم والعمل جميعًا.
[/size]


[size=21]وكلام
أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن، إلا ما قد يُشْكل
على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم
يعلمه، وأيضًا فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا ولم يستثن منه شيئًا
لا يُتدبَّر، ولا قال: لا تدبَّروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع،
ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يجعل المتشابه مميزًا
بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره.
[/size]


[size=21]وهذا
أيضًا مما يحتجون به، ويقولون: المتشابه أمر نسبي إضافي فقد يشتبه على
هذا ما لا يشتبه على غيره، قالوا: ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى
وشفاء ونور، ولم يستثن منه شيئًا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم
المعنى، قالوا: ولأن من العظيم أن يقال: إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم
يكن يفهم معناه لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي صلى الله
عليه وسلم يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد ونحو ذلك مما هو نظير
متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل
الناس. وأيضًا فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك كان
عبثًا وباطلاً والله تعالى قد نزَّه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول
الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم، وهذا من
أقوى حجج الملحدين.
[/size]


[size=21]وأيضًا
فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها
وبينوا ذلك، وإذا قيل فقد يختلفون في بعض ذلك، قيل كما قد يختلفون في آيات
الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في
العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي،
كما يكون في آيات الخبر.
[/size]


وأيضًا فلفظ التأويل على
ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم فكذلك معنى المتشابه، وأي فضيلة في المتشابه
حتى ينفرد الله بعلم معناه، والمحكم أفضل منه وقد بيَّن معناه لعباده، فأي
فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه ؟ وما استأثر الله بعلمه
كوقت الساعة لم ينزل به خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت
الساعة، ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها وإنما
النزاع في كلام أنزله، وأخبر أنه هدًى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره، ثم يقال
إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر
الذي لا يعرف أحد معناه.


[center][تفسير سورة الإخلاص لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتصرف].