بَيْد أن الإضاة بالشموع لم تكن بعد قد شاعت، فكانت مجالس الخلفاء والكبراء والطبقة الميسورة وليالي المساجد الكبيرة هي التي تضاء بالشموع منذ العصر الأموي، لأنه يكلف أضعاف الأسرجة. وقد قطع عمر بن عبدالعزيز أرزاق الشمع عن ولاة بني أمية، ولمّا طلب أبو بكر محمد بن محمد بن عمرو والي المدينة منه معاودة إطلاق هذه الأرزاق شَهَره وأمره ألا يعاوده في هذا الأمر.
غير أن استخدام الشمع انتشر وزاد بعد ذلك في جميع أنحاء العالم الإسلامي من المشرق إلى الأندلس، بعد أن كثرت وتنوعت صناعته منذ أواخر القرن الثاني. فكان الرشيد يطلب مِن حاجبه أن يستكثر من الشموع إذا انتظم مجلس السَّمَر في قصره ببغداد. وكان الأفضل الجمالي يعقد مجلس سَمَره على النيل والشموع تزهر بين يديه.
ونجد في ما بقي من أخبار نفقات الخلفاء والمساجد أثمان الشموع، وهي زهيدة إذا قيست بمقدار ثرواتهم وما ينفقون، فقد ذُكر أن المتوكل ـ وكان مشهوراً بالاسراف الشديد وبناء القصور الكثيرة ـ بلغ مجموع ما أنفقه على الشموع في السنة مائتي ألف درهم، في حين كان ثمن الشمع والزيت ـ للأسرجة ـ زمن المعتضد ستة دنانير وثلثي الدينار سنوياً (25).
ولكن هذا كله لا يدل على أكثر من الحرص في النفقة، فالتجار الصغار والميسورون كانوا يجدونه بسهولة ويستخدمونه بسبب كثرة استيراده، حتّى صارت له أسواق خاصة في المدن الإسلامية كسوق الشمّاعين في القاهرة، وكان يباع فيه في كل ليلة من الشمع بمال جزيل.
وكان شهر رمضان موسماً عظيماً فيه؛ لكثرة ما يُشترى ويُكترى من الشموع الموكبية التي تَزِن الواحدة منها عشرة أرطال فما دونها من المزهّرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يُحمل على العِجل ويبلغ وزن الواحدة منها عشرة أرطال وما فوق ذلك(27). ومثله سوق الشمّاعين في الرباط، وسوق الشمّاعين في بغداد.
وكانت الأسواق تؤمر بإيقاد الشموع في الاحتفالات السلطانية؛ فقد أمر الحاكم الناس بالوَقيد سنة 394هـ فتزايدوا فيه في الشوارع والأزقة، وزُيّنت الأسواق والقياسر بأنواع الزينة، وأوقدوا الشموع الكبيرة طول الليل.. وكثر وقود المصابيح في الشوارع والطرقات. وأمر الناس بالاستكثار منها وبكنس الطرقات وحفر الموارد وتنظيفها.
جاء في كتاب الوقوف الذي وقفه الحاكم على الجامع الأزهر سنة 400هـ وجامع المقس والجامع الحاكمي ودار العلم فيما يتعلق (@بالإضاءة@) وحدها 7 دنانير ثمن نصف قنطار شمع ودينار واحد ثمن مشاقة لسراج القناديل وربع دينار ثمن ملح للقناديل ونصف دينار ثمن خرق لمسح القناديل وثمن عشرة أرطال قِنّب لتعليقها و 37 ديناراً وثلث الدينار ثمن زيت للوقود و 24 ديناراً لمؤونة الناس والسلاسل والقباب والتنانير فوق سطح الجامع، عدا أثمان الحبال والدلاء ومائتي مكنسة وتنوّرين فضة وعشرين قنديلا فضة(28). وكانت نفقات الإنارة في مسجد بغداد في القرن الخامس في شهر رمضان ثلاثة دنانير وثلثاً(29). ويظهر من هذا كله أن تكاليف (@الإضاءة@) بالشمع لم تكن مرتفعة، فقد بلغ ثمن القنطار منه سنة 545هـ حسب بعض المصادر ما بين 17 ـ 19 ديناراً، وبلغ في بعض المصادر الأخرى عشرين ديناراً، وباع شمّاع في تلك السنة خمسة أرطال بسعر يتراوح بين دينار ودينار ونصف الدينار (30). والمقريزي يؤكد أن ثمن عشرة أرطال شمع زمن المعزّ دينار ونصف الدينار(31)، أي حوالي ثلاثين درهماً. وحين كان سعره يزيد ـ كما في أول وزارة ابن الفرات ـ قيراطاً من الذهب، فهذا يعني حسب البلاد درهماً واحداً وبعض الدرهم أو أقل من ذلك.
وهكذا كانت (@الإضاءة@) بالشموع متوفرة وممكنة، وبخاصة لذوي البسطة واليسار. أما الشموع المكلفة فكانت ثلاثة أنواع:
أ. شموع الشمع العادي الضخمة التي يصل قطرها إلى ما بين 30 ـ 50 سم، وصغيرها يعرف بالمنوية. وكانت توضع في المساجد على جانبي المحاريب، وتزيد في الطول على قامة الإنسان، وفي الوزن على قنطار، وتسمى بالمجلسية. وقد توضع في الميادين العامة أو تُجرّ على العجل في الاحتفالات الكبرى كليالي الوقود. وقد أمر الحاكم مرة فسُبكت له ستون شمعة وزن كل منها سُدس قنطار مصري. وقد أهدى السلطان السلجوقي طغرل بك إلى امبراطور الروم سنة 448هـ/1015م هدية من اللؤلؤ والصيني والأثواب وغيرها وفيها مائة قطعة أنوار فضة بشمع موكبي كبار. والسلطان قلاوون أشعل أكثر من 1500 شمعة مركبية فرحاً بقتل خصمه أحمد بن هولاكو. وابنه خليل حين عاد من الشام أمر أهل الأسواق بالخروج لاستقباله وفي يد كل منهم شمعة موكبية(32).
ب. الشموع الكافورية، وهي غالية الثمن بسبب مزجها بالكافور ورائحته الزكية.
ج. الشموع العنبرية، وهي الممزوجة بمادة العنبر، وقد رأى ناصر خسرو واحدة ضخمة منها، قال: «ورأيتُ في قبة الصخرة شمعة ضخمة يبلغ ارتفاعها نحواً من سبعة أذرع يصل سُمكها إلى ثلاثة أشبار، أشد بياضاً من الكافور مخلوطة بالعنبر، تملأ المكان برائحة العنبر الفواح عندما تضاء. ويقولون إن سلطان مصر بعث هذه الشمعة مع ما اعتاد إرساله كل عام من الشموع الكثيرة النادرة»(33).
وكان بعض الموسرين يوقد شمع العنبر ليلاً، وفي عُمان يذكرون أن يوسف بن الوجيه العماني كان يوقده في مجالسه(34). أما في الأحوال العادية فكان الشمع هو ضوء الخلفاء وغيرهم. وقد ذكر الشابشتي في «الديّارات» أن زبيدة زوجة الرشيد أوقدت ثلاث شمعات من العنبر في عرس المأمون على بوران، فلما كاد الحفل أن ينتهي قالت لجواريها: إن فيما ظهر من المروة والكرم الكفاية، ارفعوا شمع العنبر وهاتوا الشمع(35).
وشموع الكافور والعنبر كانت تختص بالاحتفالات الكبرى كأعراس الملوك والوزراء، وهي التي استعملت في أعراس الرشيد والمأمون والمعتضد، فأوقد الأول لزبيدة شموع العنبر، وأوقد المأمون في عرس بوران شمعة عنبر فيها أربعون منّاً في ثور من الذهب(36). وزاد المعتضد حين تزوج قطر الندى فأوقد أربع شمعات من العنبر في أربعة أتوار من الذهب كانت محفوظة في خزانة الخلافة، فجاءت إليه عند العشاء وقدّامها أربعمائة وصيفة، في يد كل منها تور ذهب وفضة وفيه شمعة عنبر.
وكان ثمة أنواع أخرى من الشموع كالموكبية (وتكون طويلة ثخينة القطر وقد تُحمل على العجل) والفانوسية (وهي صغيرة للفوانيس) والثلاثية (المثلثة الذبالة) والطوّافة( التي يطاف بها في البيت).
وقد كان للمصابيح والشموع والأتوار خدم في القصور، أو قَوَمة في المساجد يقومون على تنظيفها وصيانتها الدائمة. وكانوا بصورة خاصة في العهد الفاطمي يتقاضون رواتبهم من السلطان. وقد ذكر ناصر خسرو في رحلته قوله: «ولقد لاحظتُ أنه في الشام وحتّى مدينة القيروان توجد أعداد كثيرة من المساجد يتولى الإشراف عليها وكيل السلطان في كل مدينة. وهذا الوكيل يشرف على شؤون المساجد فيؤمّن لها الزيوت والمصابيح والأنواع من الفرش، ويصرف رواتب الأئمة والقوّام والمؤذّنين والفرّاشين وغيرهم كل شهر... وكتب والي الشام ذات سنة خطاباً إلى وكيل السلطان يقترح أن يبدل بالزيت الجيد الزيت الحار وهو رخيص ـ ويستخرج من الفجل واللفت ـ فأجابه وكيل السلطان: أنت لست وزيراً، وإنما عليك تنفيذ ما يُطلب منك، والأمور المتعلقة ببيوت الله لا يجب تغييرها من باب التوفير، والتبديل في هذه الأمور غير جائز»(37). أما في بغداد والمشرق وفي الأندلس، فكان القاضي هو الذي يشرف على شؤون المساجد وشموعها ومصابيحها ونظافتها وقَوَمتها. وينفق على ذلك من أوقافها.
4 ـ الاستضاءة بالنفط (المشاعل):
كان النفط معروفاً قبل الإسلام ومستخدماً على أنه دواء لبعض الإبل وعلى أنه للإحراق. ويبدو أن استخدامه كوسيلة حربية تمّ في العهد الإسلامي. واستخدامه كوسيلة استضاءة قديم ولكنه لم يَشِع إلا في المواكب، وفي المساجد الكبار، لأن لونه ولزوجته ورائحته عند الإحراق كانت تمنع استخدامه كزيت الزيتون وغيره أو كالشمع في إنارة البيوت.
وقد ذكر ابن جُبير أنه سمع عن النفط في العراق ورآه في مكانين: مكان بين البصرة والكوفة، وآخر قال فيه: «مررنا بموضع يعرف بالقيّارة من دجلة وبالجانب الشرقي منها... وهوّة من الأرض سوداء كأنها سحابة أنبط الله فيها عيوناً كباراً وصغاراً تنبع بالقار. وربما يقذف بعضها بِحُباب منه كأنها الغليان ويصنع له أحواض يجتمع فيه، فتراه شبه الصلصال منبسطاً على الأرض أسود أملس صقيلاً رطباً، عطر الرائحة شديد التعلّك فيليص بالأصابع لأول مباشرة باللمس. وحول تلك العيون بِركة كبيرة سوداء، يعلوها شبه الطحلب الرقيق أسود تقذفه إلى جوانبها فيرسب قاراً... وبمقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة أبصَرْنا على البعد منها دخاناً، فقيل لنا: إن النار تُشعل فيه إذا أرادوا نقله فتنشف النار رطوبته المائية وتعقده فيقطعونه قطرات ويحملونه. وهو يعمّ جميع البلاد إلى الشام إلى عكة إلى جميع البلاد البحرية»(38). كما ذكر ابن جبير استخدامه لطلاء سطوح الحمّامات. وثمة موضع آخر للنفط في ساحل بحر القلزم وثمة، وضع ثالث للنفط في باكو من أعمال شيروان على البحر الأسود وقد يستورده المسلمون منها.
وكان ثمة والٍ يتولى نفّاطات العراق واستثمارها. وقد تولاها أحد أصدقاء الشاعر عبدالصمد بن المعدّل فأظهر التِّيه بمنصبه، فقال له عبدالصمد:
بحفظٍ في عيونِ النفط أحدثتَ نخوةً فـكيف به لو كان مسكاً وعنبرا ؟!
دَع الكبـر واستـبق التواضعَ إنهُ قبيح بوالـي النفط أن يتكبّرا(39)
ويذكرون أن أول استخدام النفط للإضاءة في الحج كان سنة 219هـ حين وضعت المصابيح للحجّاج خيفة السرقة(40). وفي سنة 246هـ لم يوقد عند المشاعر إلا بالشموع ومُنع استخدام الزيت والنفط، وقد استمر ـ على ما يبدو ـ منعُ النفط لما فيه من أذية. أما الزيوت فعادت تظهر في الحرم مع الشمع.
على أن استخدام المشاعل ـ وهي أوعية تُملأ بالمشاقة من القطن والخرق وتُرفع في أعلى العصيّ بعد سقيها بالنفط ـ انتشر كوسيلة رخيصة للإضاءة في المواكب بجانب شكل النار الجذاب الرهيب فيها. ولم تدخل البيوتَ لما فيها من خطر الحريق، ولكنها شاعت في أيدي الحرّاس ورجال المواكب السلطانية، ويعرفون باسم «الضوية» أو «المشاعلية».
إضاءة الاحتفالات[/size]
.
وكان الملوك والعامة جميعاً يجمعون بينها وبين وسائل (@الإضاءة@) المختلفة، فقد «اجتاز نازوك الدروب في بغداد في بعض أيّام الأعياد في موكبه وبين يديه أكثر من خمس مائة فرّاش بالشموع الموكبية سوى أصحاب النفط...»(41).
وقد اعتاد الناس أن ترتبط أفراحهم العامة والخاصة بإيقاد ما يستطيعون من أضواء الشموع والمشاعل والقناديل والأنوار